قراءة في الإعلان الدستوري السوري: رؤية نقدية
- الدكتور سليم سنديان (Dr. Salim Sendiane)
- 27 مارس
- 10 دقائق قراءة

في 13 آذار/ مارس 2025، أصدر الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، إعلانًا دستوريًا يهدف إلى ضبط المرحلة الانتقالية الطويلة، التي ستمتد لخمس سنوات. سرعان ما انقسم السوريون حول هذا الإعلان، حيث تبنّى معظمهم موقفًا مؤيدًا أو معارضًا قبل حتى الاطلاع على أحكامه، وفقًا لانتماءاتهم الأيديولوجية ومواقفهم المسبقة من الحكم الجديد.
أثار البعض تساؤلات حول مدى قدرة السلطة في دمشق على إصدار هذا الإعلان. في الواقع، يستند الإعلان الدستوري إلى الشرعية الثورية التي تكتسبها السلطة الجديدة من خلال إسقاط النظام السابق والسيطرة على العاصمة. الحديث عن الشرعية الثورية هنا غير مبني على العلوم الانسانية أو على التمثيل الرمزي لمبادئ الثورة وأهدافها وقيمها، بل على السيطرة الفعلية على العاصمة وأجزاء كبيرة من البلاد، إلى جانب تقديم مشروع وطني يحظى بقبول نسبي داخلي وخارجي. وبهذا، تصبح السلطة الجديدة الممثل الوحيد للدولة في المحافل الدولية، مما يمنحها الحق في تمثيل الدولة داخليا وإصدار دستور مؤقت.
بعيدًا عن مضمون الإعلان ذاته، فإن إصدار دستور مؤقت يُعد الخطوة الأهم في أي عملية انتقالية، بل يمكن تسميته بالإجراء رقم صفر. فمن المعتاد أن تُعلن الثورات والانقلابات العسكرية عن دستور مؤقت في بيانها الأول، ما يجعل التأخر في إصدار هذا الإعلان حتى الآن أمرًا لافتًا. كان من الأفضل أن يصدر في الأسبوع الثاني لسقوط النظام، لكن بالنظر إلى خطورة الوضع القائم، يمكن تفهّم هذا التأخير، خاصة في ظل الحالة الفصائلية المعقدة التي تعيشها سوريا، والتحديات الكبيرة التي تواجه أي تفاهم مشترك بين القوى الفاعلة فيها. ومع ذلك، فإن ما يُعاب على الإعلان ليس فقط تأخره، بل أيضًا شكل مراسم التوقيع، حيث غابت عنها مختلف أطياف الشعب، واقتصرت على حضور شرعيي الهيئة وحركة أحرار الشام، مما أثار تساؤلات حول مدى تمثيل هذا الإعلان لكافة مكونات المجتمع السوري، وعزز المخاوف من استئثار فصيل أو تيار سياسي محدد بتوجيه المرحلة الانتقالية.
سأتناول في هذا المقال البحث في النقاط التالية الديباجة، هوية الدولة، مصادر التشريع، وأخيراً فصل السلطات.
اولاً: الديباجة
اعتبرت المقدمة أن الأساس في الإعلان الدستوري هو مؤتمر النصر الذي عُقد في 29 كانون الثاني/ يناير في دمشق بحضور أكثر من 17 فصيلًا معارضًا للنظام البائد، والتي أسهمت في التحرير. كما أشارت أيضًا إلى مؤتمر الحوار الوطني ومخرجاته كأساس للإعلان الدستوري.
تحمل الديباجة طابعًا وصفيًا أكثر من كونها إطارًا محددًا للمبادئ القانونية التي ينبغي أن تستند إليها الدولة خلال المرحلة الانتقالية.
ورغم أن الديباجة نصّت على الأمل في بناء دولة حديثة قائمة على العدل، والكرامة، والحرية، والمواطنة، وسيادة القانون، والحفاظ على وحدة وسلامة سوريا، أرضًا وشعبًا، إلا أن الطابع الإنشائي غطّى على الطابع الدستوري. فالديباجة يجب أن تعكس الروح الدستورية للوثيقة، أي أن تكون إطارًا موجزًا يحدد الأسس الدستورية دون الخوض في توصيفات أدبية مطولة.
الديباجة السورية لعام 2025 تبدو أقرب إلى بيان سياسي أو أدبي منها إلى نص دستوري انتقالي محكم. من الناحية القانونية، كان من الأفضل أن تتضمن مبادئ واضحة حول الديمقراطية، والتعددية السياسية، ودولة المؤسسات، والمساواة، كما فعلت إعلانات دستورية أخرى. إن لم يتم ضبط هذه الديباجة بإطار قانوني أوضح، فقد تؤدي إلى خلافات في تفسيرها لاحقًا.
ثانياً: هوية الدولة
في الباب الأول، نصّت المادة الأولى على أن "الجمهورية العربية السورية دولةٌ مستقلة ذات سيادة كاملة"، فيما نصّت المادة الثانية على أن "دينُ رئيس الجمهورية الإسلام."
أما في دستور 1920، فقد نصّت المادة الأولى من الفصل الأول على أن "حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق، ودين ملكها الإسلام."
وفي دستور 1950، نصّت المادة الأولى من الفصل الأول على أن "سوريا جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة"، بينما نصّت المادة الثالثة على أن "دين رئيس الجمهورية الإسلام."
أما دستور 1973، فقد نصّت المادة الأولى على أن "الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية"، وجاء في المادة الثالثة أن "دين رئيس الجمهورية الإسلام"، وهو ما أكّده دستور 2012 بنفس تسلسل المواد.
من خلال استعراض هذه المواد، يمكن الاستنتاج أن النص على دين رئيس الدولة أصبح عُرفًا دستوريًا ثابتًا لم تتجاوزه أي من الدساتير السورية المتعاقبة، ولم يكن للجنة المعنية بإعداد الدستور المؤقت المساس به، رغم ما ينطوي عليه من تمييز بين أبناء البلد. ومع ذلك، يجدر الإشارة إلى أن العديد من دساتير الدول الأكثر تقدمًا وديمقراطية تتضمن نصوصًا مماثلة، حيث يرتبط الأمر بهوية الدولة وضرورات تاريخية معينة.
وعمليًا، لا يُتوقع أن يصل شخص غير مسلم إلى رأس السلطة، نظرًا لأن المسلمين يشكّلون أكثر من 80% من الشعب، كما أن اتفاق هذه الأكثرية على انتخاب رئيس من أقلية دينية أمر غير واقعي. في النهاية، لسنا بصدد الحديث عن نظام سياسي شبيه ببريطانيا، حيث تختلف البنية السياسية والثقافية تمامًا. وبالتالي، فإن الجدل حول مصادرة حق الأكثرية المسلمة في الإجماع على انتخاب رئيس غير مسلم لا يعدو كونه طرحًا غير واقعي. بالمحصلة، وجود هذه المادة أو عدمه ليس له تأثير عملي ملموس، إذ تقتصر مدلولاتها على البعد الرمزي والهوية التاريخية.
أما فيما يتعلق بعروبة الدولة، فالأمر مختلف تمامًا، إذ لا يمكن اعتباره عُرفًا دستوريًا، نظرًا لأن كلاً من دستور 1920 ودستور 1950 قدّما هوية سوريا كدولة قبل التركيز على عروبتها. في المقابل، كان دستور 1973 ثم دستور 2012 هما المسؤولان عن تضخيم صفة العروبة إلى الحد الذي طغت فيه على الهوية السورية، فتحولت سوريا من دولة إلى مجرد "قطر عربي"، وأصبح الشعب السوري يُعرّف بـ"الشعب العربي في القطر السوري".
النص على عروبة الدولة وتقديمه على هوية سوريا كدولة في الإعلان الدستوري المؤقت لا يأتي استنادًا إلى عُرف دستوري راسخ أو مبدأ فوق دستوري، كما يروج البعض، بل يعود إلى واقع سياسي وإجرائي فرض نفسه. فالجنة المكلفة بصياغة الإعلان، وهي هيئة غير منتخبة، لا تمتلك الشرعية الكافية لإحداث تغيير جوهري في اسم الدولة، سواء داخليًا أو في المحافل الدولية، مما جعلها تلتزم بالتسمية القائمة دون تعديل. بالتالي إعادة التسمية فيما يضمن تمثيل مكونات عرقية أخرى كردية وتركمانية سيكون مسؤولية الجنة تأسيسية التي سيتم تشكيلها لإعداد الدستور الدائم وذلك بناء على حوار وطني حقيقي.
ثالثاً: مصادر التشريع
نصّت المادة الثالثة من الإعلان الدستوري على أن "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع، وأن حرية الاعتقاد مصونة، وتحترم الدولة جميع الأديان السماوية، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها، ما لم يخلّ ذلك بالنظام العام. كما أكّدت المادة على أن الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية وفقًا للقانون."
يُلاحظ أن هذه المادة منسوخة حرفيًا من المادة الثالثة من دستور 1950، في حين أن دستور المملكة العربية السورية لعام 1920 جاء خاليًا من أي إشارة إلى مصادر التشريع أو إلى الفقه الإسلامي، وكذلك كان الحال في دستور 1930 الذي أُقرَّ في ظل الانتداب الفرنسي. أما دستورا 1973 و2012، فقد نصّ كلاهما في المادة الثالثة على أن "الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع."
من خلال استعراض هذه المواد، يمكن الإشارة إلى نقطتين رئيسيتين:
أولًا: لم يسبق لأي من الدساتير السورية أن نصّ صراحةً على أن "الشريعة الإسلامية" هي مصدر رئيسي للتشريع، كما فعل الدستور المصري لعام 1971، بل اكتفى بعضها بالإشارة إلى "الفقه الإسلامي" دون تحديد مذهب فقهي معين. ومن المعروف أن الإنتاج الفقهي واسع ومتنوع، بل قد يتضمن اجتهادات متعارضة، تتراوح بين الليونة والتشدد. هذا التنوع قد يكون له أثر كبير على العملية التشريعية، لا سيما من حيث انسجام القوانين وترابطها، وسرعة تكيفها مع الواقع المتغير.
ثانيًا: جاء في الإعلان الدستوري أن "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع"، وهو تعبير مختلف جوهريًا عن الصياغة التي وردت في الدستوريين السابقين، والتي استخدمت عبارة "مصدر رئيسي للتشريع." الفرق بين العبارتين كبير؛ إذ أن استخدام "مصدر رئيسي" يعني وجود مصادر أخرى للتشريع يمكن الاستناد إليها، في حين أن "المصدر الرئيس" يعني بأن الفقه الإسلامي هو المصدر الوحيد.
هذا التوجه يطرح إشكالات قانونية كبيرة، إذ إنه يفرض على المشرّع السوري استمداد جميع القوانين من الفقه الإسلامي، وهو أمر غير ممكن عمليًا، نظرًا لوجود العديد من التشريعات الحديثة التي لا يمكن اشتقاقها من الفقه، مثل قوانين المرور. كما ان هناك قوانيين وتشريعات اخرى مخالفة لنص ولروح الفقه والشريعة الاسلامية والتي يتعذر حتى التوفيق بينها كالقوانين البحرية والجوية، والتأمين، وغيرها من القوانين التي تلتزم الدولة بتطبيقها بموجب التزاماتها الدولية.
الأمر يزداد تعقيدًا إذا ما اعتبر القضاة أنفسهم معنيين بمراقبة دستورية القوانين بناءً على مدى توافقها مع الفقه الإسلامي، مما قد يؤدي إلى اختلاف تطبيق القوانين من محكمة إلى أخرى، تبعًا لاجتهادات القضاة ورؤيتهم للنصوص الفقهية والقانونية. هذا الوضع قد يخلق حالة من الفوضى القانونية وعدم الاستقرار التشريعي.
لذلك، من الضروري تعديل النص ليعود إلى الصياغة السابقة التي تجعل الفقه الإسلامي "مصدرًا رئيسيًا" وليس "المصدر الرئيس" للتشريع، مع التأكيد على أن هذا النص موجه للسلطة التشريعية وليس للقضاء، لضمان انسجام القوانين واستقرار المنظومة القانونية في الدولة.
من ناحية أخرى، نصّت الفقرة الثانية من المادة 12 من الباب الثاني على أن "جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية تُعدّ جزءًا لا يتجزّأ من هذا الإعلان الدستوري."
غير أن هناك تعارضًا واضحًا بين هذه المادة، التي تعتمد اتفاقيات حقوق الإنسان كمصدر، والمادة الثالثة، التي تجعل الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع. لا يمكن افتراض إمكانية التوفيق المسبق بين هذين المصدرين، إذ لا يمكن الجزم بصحة اعتبار الأول ذو طابع عام وشامل، بينما الثاني محدد ضمن إطار معين، سواء كان ذلك على أساس القاعدة والاستثناء، أو الإطلاق والتقييد.
في ظل الصياغة الحالية، من المرجح أن يميل المشرّع إلى تغليب المادة الثالثة، مما قد يؤدي فعليًا إلى إفراغ المادة 12 من مضمونها، وجعل الإشارة إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان بلا أثر قانوني حقيقي. لذلك، يُفضَّل إعادة صياغة المادة الثالثة بحيث يكون الفقه الإسلامي "مصدرًا رئيسيًا" وليس "المصدر الرئيس" للتشريع، الأمر الذي يمنح المشرّع هامشًا أوسع للموازنة بين أحكام الفقه الإسلامي والالتزامات الدولية، بما يضمن انسجام القوانين مع كل من الهوية الدستورية للدولة ومعايير حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا.
من ناحية اخرى تشكل المادة الثامنة عشر في فقرتها الاولى استثناء واضح من المادة الثالثة حيث نصت عل أن تصون الدولة كرامةَ الإنسان وحرمة الجسد وتمنع الاختفاءَ القسريّ والتعذيبَ المادي والمعنوي. بالتالي لا يمكن للمشرع النص في قانون العقوبات وتعديلاته على أي عقوبة جسدية كالجلد أو غيرها.
رابعاً: فصل السلطات
عادةً ما تحتفظ مجالس قيادة الثورة أو المجالس الانتقالية بسلطتي التشريع والتنفيذ خلال المرحلة الانتقالية، كما كان الحال في ليبيا، حيث نصّت المادة السابعة عشرة من الإعلان الدستوري الليبي المؤقت على أن "المجلس الوطني الانتقالي المؤقت هو أعلى سلطة في الدولة الليبية، ويمارس أعمال السيادة العليا، بما في ذلك التشريع ووضع السياسة العامة للدولة." إلا أن الفترة الانتقالية في ليبيا كانت قد حددت بثمانية أشهر فقط بعد تحرير البلاد.
أما في سوريا، فقد تم تحديد المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، وهي مدة طويلة مقارنةً بتجارب دول أخرى، وإن كانت الظروف تبرّر ذلك، لا سيما الدمار الهائل في البنى التحتية، وتبعثر السوريين في مختلف أنحاء العالم، وافتقار جزء كبير من الشعب إلى وثائق ثبوتية، مما يجعل عمليات الإحصاء والتحضير لإجراء انتخابات عملية معقدة تتطلب وقتًا أطول، خصوصًا في ظل محدودية الموارد. بناءً على ذلك، سعت اللجنة الدستورية إلى إيجاد نوع من التوازن بين السلطات، لا سيما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، مستندةً إلى ما أسمته على وجه مغلوط "مبدأ الفصل بين السلطات".
في هذا السياق، منحت المادة 24 من الباب الثالث رئيس الجمهورية سلطة تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب المؤقت، كما أوكلت إليه مسؤولية تشكيل لجنة عليا مكلفة باختيار الثلثين المتبقين عبر "هيئات فرعية ناخبة"، بطريقة غير مفهومة وغير واضحة. ومع ذلك، لم يُمنح الرئيس حق عزل أعضاء مجلس الشعب بإرادته المنفردة، إذ يستوجب العزل موافقة ثلثي أعضاء المجلس وفقًا لنص المادة 25. وتبلغ مدة ولاية هذا المجلس 30 شهرًا، ومن أبرز صلاحياته، وفقًا للمادة 30، عقد جلسات استماع للوزراء، والمصادقة على المعاهدات الدولية، وإقرار العفو العام. لكن في المقابل، لم يمنح الإعلان الدستوري المؤقت رئيس الجمهورية أي صلاحيات تشريعية، سواء خلال انعقاد مجلس الشعب أو حتى خلال ولايتين، على عكس الرئيس الفار، الذي تمتع بصلاحيات تشريعية واسعة، إلى درجة أن عدد التشريعات الصادرة عنه في كثير من السنوات كان يفوق تلك الصادرة عن البرلمان. كما لرئيسُ الجمهورية، وفقا للماد 39 الفقرة الثانية، حق الاعتراض على القوانيين بقرارٍ معلّل خلال شهر من تاريخ ورودها من المجلس الذي يعيد النظر فيها، ولا تُقَرُّ القوانينُ بعد الاعتراض إلّا بموافقة ثلثي مجلس الشعب، وفي هذه الحالة يصدرها رئيس الجمهورية حُكمًا.
رغم ذلك، لا يمكن الحديث عن مبدأ فصل السلطات، لا بالشكل المطلق كما هو الحال في الدستور الأمريكي، ولا بالشكل النسبي كما في الدستور الفرنسي. وكان من الأجدر، من وجهة نظري، اعتماد نظام شبه رئاسي وليس نظام برلماني كما كان يطالب بعض اساتذتنا الفاضلين، لا سيما في مجتمع يعاني من التشرذم والانقسامات، حيث سيؤدي حتما النظام البرلماني إلى انسداد تشريعي وتعطيل مؤسسات الدولة.
في النظام شبه الرئاسي، تتكوّن السلطة التنفيذية من رئيس ذي صلاحيات سياسية وسيادية، يتفرغ للشؤون الخارجية، وتشكيل الجيش، وإدارة القضايا الكبرى، في حين يتولى رئيس وزراء (أو رئيس مجلس وزراء) الشؤون الإدارية والخدمية، بحيث يكون مسؤولًا أمام كلٍّ من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب، الذي يمكنه مساءلة الحكومة وحجب الثقة عنها عند الضرورة.
أما فيما يتعلق بمجلس الشعب، فكان من الأفضل أن يكون المجلس الثاني، أي المجلس المُشكَّل بعد سنتين ونصف، مجلسًا منتخبًا مباشرةً من قبل الشعب، إذ إن هذه المدة كافية لتحقيق هذا الإنجاز، كما أنها ضرورية لإشراك المواطنين في العملية الانتقالية، وضمان شرعية السلطة الجديدة، والحكم على مدى نجاح المرحلة الانتقالية في تحقيق أهدافها.
أما فيما يتعلق بالسلطة القضائية، فقد أكدت المادة 43 على استقلالها وأوكلت إلى المجلس الأعلى للقضاء مهمة ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله. ولم ينص الإعلان الدستوري على رئاسة رئيس الجمهورية للمجلس الأعلى للقضاء، كما كان معمولًا به سابقًا. كما حظرت المادة 44 تشكيل محاكم استثنائية، فيما نصّت المادة 45 على الأخذ بنظام القضاء المزدوج (العادي والإداري) وإخضاع القضاء العسكري لإشراف المجلس الأعلى للقضاء.
التبس على البعض موضوع حظر المحاكم الاستثنائية مع الإبقاء على القضاء العسكري، إلا أنه لا تعارض بين المادتين، إذ إن القضاء العسكري يُعتبر قضاءً خاصًا وليس استثنائيًا، بينما يُقصد بالمحاكم الاستثنائية تلك المحاكم المؤقتة التي تُنشأ خارج إطار النظام القضائي العادي. لكن التعارض يظهر بوضوح في فحوى المادة 49، التي تنصّ على استحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية تعتمد آليات فاعلة لتحديد سبل المساءلة. وفقًا لنص الدستور، لا يمكن تشكيل محاكم استثنائية، في حين أن آليات المحاسبة الانتقالية بطبيعتها ذات طابع استثنائي، ولا يمكن إحالتها إلى القضاء العادي، إذ ستُثقله وتعيق عمله.
من جهة أخرى، لا يستقيم الحديث عن مبدأ فصل السلطات عندما تُسند المادة 47 إلى رئيس الجمهورية مهمة تسمية الأعضاء السبعة للمحكمة الدستورية العليا، وهي الجهة المخوّلة بالنظر في مساءلة الرئيس في بعض الحالات. وكان من الأجدر أن يقتصر تعيين الرئيس على ثلث أعضائها، على أن يُترك أمر تعيين الثلثين المتبقيين لكلٍّ من المجلس الأعلى للقضاء ومجلس الشعب، تحقيقًا للتوازن وضمانًا لاستقلالية المحكمة الدستورية العليا.
خاتمة
يبدو أن الإعلان الدستوري الصادر في 13 آذار/مارس يتجاوز في بعض مواده نطاق الإعلان الدستوري، بينما لا يرقى إليه في مواد أخرى. كان من المفترض أن يركز هذا الإعلان على تنظيم مراحل الانتقال خلال السنوات الخمس المقبلة، خاصة فيما يتعلق بإصدار قانون الانتخابات، وتشكيل الهيئة العليا للانتخابات، وتحديد آلية تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية. إلا أن الإعلان لم يتناول هذه القضايا بالشكل المطلوب، وبدلاً من ذلك، تطرق إلى مسائل تتعلق بهوية الدولة، وهي قضايا لم يكن من اختصاص لجنة معيّنة البت فيها دون إجراء حوار سياسي شامل.
من ناحية أخرى، لا شك أن الإعلان الدستوري منح الرئيس صلاحيات تنفيذية واسعة، إلا أن هذه الصلاحيات لا ترقى إلى تلك التي تمتع بها رئيس النظام السابق، الذي جمع بين السلطتين التشريعية والقضائية. ومع ذلك، يثير البعض مخاوف من احتمال تركّز السلطة بيد الرئيس خلال فترة الخمس سنوات، مما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج الاستبداد، خاصة أن مصطلح "الديمقراطية" لم يرد صراحة في الدستور.
ورغم عدم الإشارة المباشرة إلى الديمقراطية، فقد تم تضمينها بشكل غير مباشر من خلال الإحالة إلى اتفاقيات حقوق الإنسان الموقعة، بالإضافة إلى المادة 14 من الإعلان الدستوري، التي أكدت في فقرتها الأولى على حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية. كما تضمنت باقي المواد ضمانات قوية لحماية الحقوق والحريات الأساسية، لا سيما حقوق المرأة في التعليم والعمل وغيرها. ومع ذلك، كان من الأجدر تعزيز هذه الضمانات عبر اعتماد نظام شبه رئاسي، بحيث يخضع الوزراء للاستجواب وحجب الثقة أمام مجلس الشعب، مما يتيح للرئيس التفرغ للمواضيع الأكثر أهمية دون الانشغال بالتفاصيل الإدارية. إضافة إلى ذلك، كان من الأفضل أن يكون المجلس الثاني منتخبًا خلال الفترة الانتقالية، مع حصر تسمية اعضاء "مجلس الشعب" بالمجلس الأول فقط.
في النهاية، لا يمكن لأي نص دستوري، مهما بلغت دقته، أن يمنع إعادة إنتاج نظام استبدادي. فوعي المواطنين وثقافتهم هما العامل الحاسم في ترسيخ الديمقراطية والتعددية أو الوقوع مجدداً في براثن الاستبداد.
Comments